غيبوبة ........البلد

يقول الشاعر:
من رزق الحمق فذو نعمة ..
آثارها واضحة ظاهرة
يحط ثقل الهم عن نفسه ..
والفكر في الدنيا وفي الآخرة
ومن أمثال العرب: لا سرور لعاقل.. إذا أقبلت عليه الدنيا حزن خوفاً من
إدبار الآخرة عنه.. والهم والعقل لا يفترقان وقد استراح من لا عقل له..
ويقول الشاعر:
أري العقل بؤساً في المعيشة للفتي..
ولا عيش إلا ما حباك به الجهل
والجاهل الأحمق ينال غرضه ويظفر بمآربه. ويتبع هواه وهو مع ذلك يبرأ من
اللوم ولا يعيبه أحد.. ويتسلي الناس بحماقته فيطلبون منه المزيد.. وكم من
عاقل أخره عقله. وجاهل صدره جهله.. وقال الإمام محمد بن الحنفية "رحمه الله
ورضي عنه": وكل الله العقل بالحرمان والهم والألم. ووكل الجهل بالغني
والدعة وطول الأمل.. وقال أحد العلماء في قول الله عز وجل: "وغرتهم
الأماني".. هؤلاء والله هم الحمقي.. وقال آخر في قول الله عز وجل: "أفمن
هذا الحديث تعجبون.. وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون".. هؤلاء هم الحمقي..
والسمود. البلادة والحمق.
وقال شاعر عربي قبل ألف عام وكأنه يقول ذلك عن أيامنا هذه:
لما علا الجهال في أيامنا ..
ورقوا ونالوا منزلاً وسريرا
أخفيت علمي وأطرحت فضائلي ..
علي أكون إذا جهلت أميرا
وقال أمير البلاغة عبدالقاهر الجرجاني:
كبر علي العقل يا خليلي..
ومل إلي الجهل ميل هائم
وكن حماراً تعش بخير..
فالسعد في طالع البهائم
وقال الآخر:
إذا كان الزمان زمان حمق ..
فإن العقل حرمان وشوم
فكن حمقاً مع الحمقي فإني..
أري الدنيا بدولتهم تدوم
وتقول العرب: العقل وسوء الحظ متلازمان.. ودعت أم الإسكندر الأكبر
لولدها فقالت: رزقك الله حظاً يخدمك به ذوو العقول. ولا رزقك عقلاً تخدم به
ذوي الحظوظ.. وقال رجل. لما طلبوا منه التروي والتفكير قبل أن يختار بين
أمرين: بل أختار علي عجل. فأنا أثق بحظي أكثر من ثقتي بعقلي.
والله تعالي أثني علي المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم. ولم
يثن علي الذين إذا ذكر الله رقصت قلوبهم.. ومن السبعة الذين يظلهم الله يوم
لا ظل إلا ظله: رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه بالدموع.. وليس منهم رجل
ذكر الله خالياً فطرب ورقص وغني.. وقال رسول الله "صلي الله عليه وسلم":
"عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله.. وعين باتت تحرس في سبيل
الله"... والحزن يوصف بأنه نبيل.. والسرور والفرح يوصفان بالهم الوبيل..
وأنبل الحزن والألم حزنك وألمك علي وطن أصابت الحماقة أبناءه. رغم أنك علي
المستوي الشخصي لا تعاني أي مشاكل أو أمراض.. أنت حزين علي السامدين
الخامدين الذين يضحكون ولا يبكون.. ويقبلون علي حياة هي والموت سواء.. حزين
علي وطن يتساقط طوبة طوبة. بسواعد أبنائه الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.. وإذا قيل لهم: "اتقوا الله أخذتهم العزة
بالإثم.. وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون.. ألا
إنهم هم المفسدون. ولكن لا يشعرون"
***
* الذي يتألم فقط هو الذي سوف يبرأ من المرض في الدنيا وينجو من العذاب
في الآخرة.. والله عز وجل لا يحب كل مختال فخور. ولا يحب الفرحين.. جاءنا
اليأس وحاصرنا العوز. ومع ذلك نقول: "عادي.. هذا شأن كل الثورات".. لا ندعو
الله ولا نتضرع إليه ليكشف عنا البأس واليأس.. بل نحتفل ونفرح ونرقص
ونهتف: "هابي فالنتاين" وصدق فينا قول الله عز وجل: "فلولا إذ جاءهم بأسنا
تضرعوا.. ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملونہ فلما نسوا ما
ذكروا به.. فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة
فإذا هم مبلسون".
والمصريون يوصفون دوماً بأنهم شعب ضحوك مرح "فشته عايمة".. ويقال عنهم
ذلك في موضع المدح. بينما هو في الحقيقة قدح وذم.. فتلك صفات شعب في غيبوبة
"سارقاه السكين" كالطير يرقص مذبوحاً من الألم.. والضحك عندنا من غير سبب
فهو قلة أدب. والفرح عندنا بلا مبرر. فهو غيبوبة.. والإفاقة هي الألم
والحزن والبكاء لما يحدث في وطني.
ونحن نكرر خطايانا في كل العهود. لأننا سامدون. خامدون. وأمات الضحك
قلوبنا وعقولنا.. ولو آلمتنا خطايانا ما كررناها. ولو أوجعتنا سيئاتنا ما
أعدنا إنتاجها بأبطال مختلفين وأسماء جديدة.. وما دفعنا أنهاراً من الدماء
بلا جدوي.. زمان كان يمر بقريتنا طريق ترابي كنا نسميه "الجسر العجوز"..
وكانت تمر عليه سيارة كل يومين. فلم تكن السيارات بتلك الكثرة.. وعندما تمر
عليه سيارة تسير كالسلحفاة.. وكان الناس يعبرون بين جانبي الجسر ببطء وهم
آمنون. حتي إذا كان بينهم وبين السيارة شبر واحد.. فلا خوف.. ومرت سنوات
وتم رصف الجسر العجوز وكثرت السيارات وصارت تمرق علي الجانبين بسرعة
كبيرة.. ولم يوفق الناس في قريتي والقري الأخري أوضاعهم مع الجسر الجديد..
وظلت تقديراتهم للمسافة والزمن كما كانت أيام الجسر الترابي العجوز..
ودفعنا دماء وأرواحاً كثيرة بسبب انفصال الناس عن الزمن والمسافة الجديدين.
ومازالت الدماء تتدفق رغم مرور عشرات السنين.. مازال المئات يموتون سحقاً
تحت السيارات.. يموتون مجاناً دون أن يتعلم أحد.. ودون أن نفطن حتي الآن
إلي أن الجسر لم يعد عجوزاً وأن السيارات لم تعد سلاحف.. وليس لهذا اسم آخر
سوي التخلف والحماقة والسمود والخمود.. عندما يتغير الحجر والشجر والمبني.
ولا يتغير البشر والمعني. فإن ذلك هو التخلف بعينه.
أفعال الحمقي والمتخلفين لابد أن تكون مثلهم حمقاء ومتخلفة.. لذلك جاءت
ثوراتنا حمقاء ومتخلفة.. وممارستنا للسياسة حمقاء وبلهاء.. وديمقراطيتنا
متخلفة. وتديننا أحمق. وليبراليتنا بلهاء و"عبيطة".. إنه "اللبن من وش
القرد".. نحن شعب الفسيخ الذي لا يمكن أن يكون شربات.
كل زرعنا الفكري والسياسي والديني كالبقلة الحمقاء.. التي تنبت في
مخرات السيول وفي طريق الحيوانات والمواشي. فلا تنمو أبداً. وسرعان ما يتم
اقتلاعها.. لكنها حمقاء تعاود فعلها الأحمق وتكرر خطاياها وتنبت مرة أخري
في مخرات السيول.. ومن أمارات التخلف والحمق أننا شعب جزئي يغرق نفسه في
الجزئيات. ولا يدرك الكليات.. مشغولون بالتفاصيل الخائبة. ولا يعنينا
الإجمال.. فإذا تعرضت النساء للاغتصاب الجماعي في ميدان التحرير ننقسم إلي
فرق متناحرة في حوار طرشان حول مَن المخطئ: هل هي البنت التي ذهبت إلي
الميدان وعرضت نفسها للاغتصاب. أم هو الشاب الذي اغتصبها؟!!.. امرأة انكشفت
أو كشفت عن ساقيها في الحج.. فقال لها رجل يجاورها: "استري نفسك يا
ولية".. فقالت له: "غُض بصرك يا حمار".. نغرق في التفاصيل حول من المخطئ:
هل هي المرأة التي تعرت؟!!.. أم الرجل الذي طلب منها الاستتار؟!!.. وتضيع
كل القضايا وتغرق وتغرقنا في الجزئيات.. تماماً مثل الأتوبيس الذي غرق في
النيل بركابه. وسؤال الصحفي لرئيس الوزراء آنذاك: هو كان أتوبيس ثمانية.
ولا ثمانية بشرطة؟!!.. تماماً مثل أثداء نساء بني سويف. ومسئولياتهن عن
أمراض أطفالهن.. مسئولونا أيضاً جزئيون يفكرون بطريقة مبتورة. ومبتسرة.
لذلك نعجز ويعجزون عن حل أي مشكلة.. ونصف الدواء الخاطئ. وربما الدواء الذي
فيه سم قاتل.
نحن نحل مشكلة الفقر بالشوادر والبقالة وتوزيع الكراتين.. وهذه عادة
مرذولة في كل عصر حتي قال لي أحد أصدقائي: "اللي بني مصر كان في الأصل
بقال".. مسئولونا في كل العهود بقالون.. يحلون مشاكلنا بطريقة البقالين
الصغار "حل المشاكل قطاعي". وبالتجزئة.. مسئولونا في كل العهود "بتوع شوادر
وكراتين رمضان وموائد رحمن وزيت وسكر".. يعطوننا سمكة ولا يعلموننا الصيد.
***
* كل مسئولي مصر علي مر عهودها تجار وليسوا صناعاً.. مجرد أصحاب
توكيلات لسلع وسلاسل تجارية عالمية.. حتي في السياسة هم تجار وبقالون
وليسوا صناعاً.. هم أصحاب توكيلات ديمقراطية غربية وليبرالية مستوردة.. نحن
لا نصنع فكراً ولا سياسة.. ولكننا نتاجر أو نحصل علي توكيلات أفكار
وسياسات الآخرين.. نحن نفتح محال بقالة سياسية لعرض سلع صنعها وأنتجها
آخرون.. نحن مجرد مخازن لأفكار وسياسات الآخرين حتي إذا كانت السلع
المستوردة لا تصلح لنا.. والمسئولون والبقالون في كل عهودنا يعتمدون علي
عيب خطير فينا وهو أننا شعب مستهلك بلا رشد ولا وعي.. يستهلك سلعاً وسياسات
وأفكاراً مستوردة.. بل وتدينا مستورداً. حتي إذا كان كل ذلك مضروباً وغير
صالح للاستهلاك المصري.
وعلي طريقة البقالين اهتمت حكوماتنا وأنظمتنا منذ ستين عاماً أو يزيد
بحبسنا في بطوننا.. اهتمت بالمجمعات الاستهلاكية. والشوادر والبقالات. ثم
بالسلاسل التجارية الكبري.. ومازال الوضع السييء مستمراً.. لا فرق بين
الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي والحزب الوطني وحزب الحرية والعدالة..
اهتمت حكوماتنا وأنظمتنا بإعطائنا السمك دون أن تعلمنا الصيد.. لأن تعليم
الصيد صناعة. وإعطاء السمك تجارة.. ومسئولونا علي مر العهود تجار وبقالون.
وليسوا صناعاً ولا مبتكرين.. اهتمت حكوماتنا وأنظمتنا بتجارة التجزئة في
التعامل مع قضايا الوطن. ولم تهتم في أي عهد بتجارة الجملة. وبإدراك
الكليات.. أنظمتنا دائماً تعمل بطريقة البقالين.. فالبقال لا يصنع السلعة.
ولكنه يعرضها ويبيعها. فإذا اكتشفت أن السلعة التي اشتريتها منه مضروبة.
فإن حجته عليك قوله: "وأنا مالي. هو أنا اللي صنعتها؟!".. البقال ليس
مبتكراً. ولا خلاقاً. ولكنه وسيط بين صانع ومستهلك بهامش ربح.. كذلك
أنظمتنا تتاجر في مشاكلنا ولا تصنع أو تبتكر حلولاً. وسواء كان المحل
صغيراً أو ضخماً أو مركزاً تجارياً عملاقاً فإنه في النهاية بقالة..
والمسئول في كل العهود بقال صغير أو بقال كبير.
حتي تصريحات مسئولينا في كل العهود تصريحات بقالين.. وكلامهم عما لديهم
من خطط وبرامج وقوانين وتصورات مثل كلام البقالين عما لديهم من سلع لا
مثيل لها عند البقالين الآخرين.
والمسئولون مثل البقالين يتاجرون في حاجاتنا وأزماتنا وفقرنا
وبطالتنا.. ويتكسبون من غبائنا وغفلتنا ويقدمون الرشاوي الانتخابية. ولا
يقدمون حلولاً كلية لمشاكلنا.. كلام المسئولين في مصر علي مر العصور.. كلام
بقالين. وأفعالهم أفعال بقالين.. وسياساتهم سياسات بقالين "قطاعي".. "يا
ريت حتي بقالين جملة".. والصراع علي أصوات الناخبين في بلدي صراع بين
بقالين علي مستهلكين وزبائن.. وصراع القوي السياسية في بلدي يربح فيه من
يجيد البقالة وإقامة الشوادر. ويدخل خدمة توصيل الكراتين إلي المنازل. ولا
يكسب فيه من يوزع أفكاراً أو مبادئ أو قيماً أو شعارات.. يكسب فيه البقال
ولو كان كذاباً وغشاشاً. ويخسره صاحب المكتبة. حتي إذا كان يعرض أمهات
الكتب مجاناً.. الذين يعملون علي البطون في وطني هم الرابحون.. والذين
يعملون علي الرءوس هم الخاسرون.. هكذا اعتدنا منذ سنين طويلة.. اعتدنا أن
"ساعة البطون تتوه العقول".. والبطون عندنا ليست ساعة. بل سنوات طويلة..
والعمل علي البطون في وطني هو الرائج والرابح.. فبين كل مقهي ومقهي مقهي أو
ملهي.. وبين كل سوبر ماركت "ومول تجاري".. بقالة ولا تكاد تجد مكتبة أو
منتدي.. ولكل مقام مقال.. أو كما قال البقال!!!

الأحد	الإثنين	الثلاثاء	الأربعاء	الخميس	الجمعة	السبت
	1	2	3	4	5	6
7	8	9	10	11	12	13
14	15	16	17	18	19	20
21	22	23	24	25	26	27
28	29	30

غيبوبة ........البلد

غيبوبة ........البلد

غيبوبة ........البلد :: تعاليق