عفوا ............للتعبير

* أفسدت الأضواء قومنا حتي أخرجتهم من الملة وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعاً.. صار قومي كالفراشات التي لا تقوي علي مقاومة الأضواء. فتندفع إليها
حتي تحترق وتحرق الدين والوطن.. انهارت لدينا المناعة فصارت عقولنا
ورءوسنا وقلوبنا سلال قمامة تلقي فيها النفايات والزبالة والمخلفات بلا
مقاومة.. بل نظن أننا نحشو عقولنا فكراً ولا ندري أننا نحشوها فقراً..
والأضواء مثل السلطة لها سكرة بلا فكرة. ولها نشوة وغشوة وعشوة. تعمي
البصائر والأبصار. فلا يميز من أسكرته الأضواء الخبيث من الطيب.. ونحن
أعجبتنا كثرة الخبيث وخرجنا من خبيث إلي أخبث.. وصرنا نطرب لكل خبيث وننفر
ونهرب من كل طيب.. والذين اعتادوا الحياة في دورة مياه يألفون الرائحة
الكريهة. ولا يأنفون أو يتأففون أو يقرفون منها.. وعبثاً تحاول إقناعهم
بأنهم في مرحاض فلا يقتنعون لأن الأشياء تعرف بضدها.. وهؤلاء لم يشموا في
حياتهم ريحاً طيبة حتي يقرفوا من الخبيثة.. وحياتنا الدائمة في المرحاض لا
تجعلنا نجيد شيئاً إلا الصرف.. نصرف في الشوارع والميادين ونصرف في البر
ونصرف في البحر ونصرف في الفضاء ونصرف في مواقع تواصل الصرف غير الصحي..
والقرود التي تتراقص في المرحاض لا تنظر خلفها أبداً حتي تكف عن الرقص..
وحياتنا كلها تحولت إلي سباق في الصرف.. الصرف السياسي والصرف الاقتصادي
والصرف الفني والصرف الثقافي والصحفي.. بل والصرف الديني أيضاً.. وأواني
الصرف البشرية تنضح بما فيها.. وكل القنوات التي نعبر فيها عن آرائنا ليست
سوي مواسير صرف.. الفضائيات والمنابر والأحزاب والحركات والجبهات والجماعات
والتيارات والمليونيات.. كلها مواسير صرف.. وكل شيء يخرج منها عفناً يزكم
أنوف العالم لكنه لا يزكم أنوفنا لأننا فقدنا حاسة الشم والتمييز.. بل إن
الناس جميعاً في أمتي العربية وفي وطني تحولوا إلي مواسير "مجاري" متحركة
تطفح في الطرقات والشوارع والمؤسسات.. بل تطفح في المساجد والكنائس أيضاً.
والدول العربية جميعها مراحيض متعددة.. وسكان كل مرحاض يتباهون
بمرحاضهم.. ولا يفطن العرب إلي الحقيقة المرة التي تقول: تتعدد الأشكال
والمرحاض واحد.. هناك مرحاض خمسة نجوم "سوبر لوكس".. وهناك مرحاض "لوكس"
فقط.. ومرحاض واسع. ومرحاض ضيق.. هناك كنيف.. هناك محل أدب.. هناك البلدي
والأفرنجي.. لكن المرحاض واحد والرائحة واحدة والإنتاج واحد.. تماماً مثل
المقابر.. الناس في أمتي وفي بلدي يباهون بعضهم بالمقابر.. منهم من يبني
مقبرة سبعة نجوم.. ومنهم من يبني مقبرة بالطوب اللبن.. وفي النهاية تفتح أي
مقبرة فلا تجد فيها إلا عظاماً نخرة وجثة عفنة لا يعنيها إن كان القبر
قصراً أو حفرة.
ولأن الناس في أمة العرب مواسير صرف متحركة فإنهم يطفحون علي كل شيء
جميل ونبيل. فيصيبونه بالعفن ويفسدونه.. يطفحون في حديقة غناء فتتحول إلي
خرابة تموت أشجارها وتهرب أطيارها وتذبل زهورها وتفسد فواكهها.. طفحت مجاري
الناس في بلدي وأمتي علي كل النظريات والأفكار والعقائد فأفسدتها.. أفسدت
مواسير الصرف البشرية الاشتراكية والرأسمالية والانفتاح والحرب والسلام
والثورات.. بل أفسدت التدين ذاته فخرج من الأواني العفنة عفناً كريهاً
منفراً لا يطاق.
قلت مراراً ولا أمل تكراراً إن العفن والقبح في الجسد.. في مسام
الجلد.. في كرات الدم. فلا جدوي من تغيير الملابس كل يوم أو حتي كل ساعة..
الثوب الجديد "الشيك" سيكتسب بسرعة رائحة الجسد ويصير عفناً.. قلت لقومي
مراراً وتكراراً ولم يزدهم قولي إلا فراراً.. إن الوعاء نفسه هو المسمم..
مادته الخام المصنوع منها مسممة.. تضع فيه ترياقاً أو عسلاً أو بلسماً أو
إكسير الحياة.. سيتحول إلي إكسير الموت.. تعبئه اشتراكية أو رأسمالية أو
إسلامية أو ليبرالية.. كل هذا سوف يتسمم ويصبح قاتلاً.
تسممت ثورات العرب من المحيط إلي الخليج. وصارت ثورات الرقيع العربي
والخريف العربي والتخريف العربي والخرفان العربية.. لأن الأحصنة التي تجر
عربتها فاسدة.. ولأن العربة محملة بالقمامة ومخلفات الصرف.. ظننا وظننا
دائماً آثم كله. أن ثورات العرب كانت بداية كل خير.. فإذا بها بداية كل
شر.. ظننا وظننا كله إثم أنها مفتاح للخير.. مغلاق للشر والفساد. فإذا بها
مفتاح للشر والفساد.. مغلاق للخير والإصلاح.. ودول الثورات العربية صارت
عبرة للدول التي لم تبتل بالثورات.. وهذه الدول الناجية ينبغي أن تفكر
شعوبها ألف مرة قبل أن تخيب خيبة الشعوب الثائرة.. الدول الناجية تنظر الآن
إلي بلاوي الدول الثائرة فتهون عليها "بلوتها".. الدول الناجية لديها
مشاكل ولكنها دول.. أما الدول الثائرة فلم تعد دولاً. وتضاعفت كوارثها..
هناك حل طالما أن الدول قائمة.. لكن لا حل علي الإطلاق إذا سقطت الدولة..
تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن والعراق لم تعد دولاً.. ولكنها صارت كيانات
بلا ملامح ولا هوية ولا معني.. لأن الناس في أمة العرب لا خير في سكونهم.
ولا خير في حركتهم.. لا خير في رضاهم. ولا خير في سخطهم.. لا خير في
موالاتهم. ولا خير في معارضتهم.. العرب في ثوراتهم وفي كل شئونهم يعانون
حماقة جدتهم "ريطة" التي نقضت غزلها.. يعني يغزلون ويحكمون الغزل حتي يصبح
جميلاً ومثالياً ثم ينقضونه فيصبح كل خيط "في حتة".. الحماقة لا تجعلهم
يعرفون لماذا غزلوا. ولماذا نقضوا غزلهم!!
****
¼ والحياة في دورة المياه تجعل تركيز سكان المرحاض علي الشق الأسفل..
كل شيء عند العرب سفلي. ولا قيمة للشق العلوي عند سكان المراحيض العربية..
الثورة تتحول إلي تحرش جماعي.. مليونيات تحرش.. الاعتراض جنسي سفلي.
والتأييد جنسي سفلي. والتدين سفلي. يرتكز علي القدم التي ندخل بها
المرحاض.. التدين جنسي أيضاً. وجعلنا سجناء سيقان وأرداف وأزياء النساء..
تدين التغطي الجسدي والتعري الفكري والعقلي واللساني.. تدين الدعوة إلي
الفضيلة بأدوات ووسائل الرذيلة.. تدين المظاهر المضيئة والجواهر المظلمة..
الدعوة إلي كل شيء جميل بوسائل قبيحة.. الدعوة إلي الرفق بالفظاظة.. وإلي
اللين بالقسوة.. وإلي التسامح بالحقد. وإلي الحب بالكراهية.. وإلي الحياة
بالقتل وإهدار الدم!!
دائماً "النمرة غلط" في أمة العرب.. ضربنا رقم الثورة. فردت علينا
الفوضي.. ضربنا رقم الحرية. فرد علينا الانفلات.. ضربنا رقم العيش. فرد
علينا الفقر والجوع.. ضربنا رقم الكرامة. فردت علينا المهانة والذل
والهوان.. ضربنا رقم الأمن فرد علينا الخوف والهلع.. ضربنا رقم الحياة. فرد
علينا الموت والقتل وإهدار الدم.. ضربنا رقم الإصلاح. فرد علينا الفساد..
وضربنا رقم التقوي. فرد علينا النفاق.. ضربنا رقم الثوار النبلاء. فرد
علينا البلطجية والحرامية والذئاب البشرية.. طلبنا رقم الحلم الجميل. فردت
علينا الكوابيس.. طلبنا الرقم "الغلط".. والأمر اختلط.. وأكلنا الزلط.
"راحت السكرة وجاءت الفكرة".. "راحت الثورة وظهرت العورة".. دائماً
أقول لنفسي. وأنا أدمنت التحدث مع نفسي: كنا نريد ثورة ولكن "يا خسارة مش
دي".. كنا نريد تدينا. ولكن ليس هذا.. كنا نريد حكومة جديدة ولكن ليست
هذه.. كنا نريد برلماناً ولكن ليس هذا.. كنا نريد حرية ولكن ليست هذه.. كنا
نريد كل ما حدث.. لكن كل ما حدث ليس هو الذي أردناه.. أعترف بأن "قرفتنا
وحشة".. "ووشنا وحظنا وحش.. نفسنا وحش.. عرقوبنا ناشف".. نأتي دائماً بعد
الموعد وبعد فوات الأوان.. لا نسقي حتي يصدر الرعاء.. لا نشرب حتي يفرغ
الوعاء.. "فقرنا دكر".. كنت أتصور أن هذه قرفتي وحدي. لكن تبين أنها
"قرفتنا جميعاً ونحسنا كلنا".. زمان كنت أسخر من نفسي وأضحك ويضحك من
حولي.. قلت إنني أصبحت صحفياً "بعد ما الصحافة لَمِّت".. وأصبحت كاتب مقال
بعد أن أصبح "عشرة كُتَّاب بقرش".. وقبل ذلك ركبت الدرجة الأولي في القطار
بعد أن ركبها "كلاب البلد".. واقتنعت بالهاتف المحمول بعد أن صار مع
أراذلنا بادي الرأي.. والمثل العربي الذي يقول: إن تأتي متأخراً. خير من
ألا تأتي أبداً.. "قُصر ديل.. وضربه رجل ليعزي نفسه".. والصواب هو ألا تأتي
أبداً. خير من أن تأتي متأخراً.. فعدم المجيء يوفر عليك التعب. لكن المجيء
متأخراً يقتلك غيظاً وكمداً.
كنت أظن أنها "قرفتي وحدي".. لكنها علي ما يبدو "قرفتنا كلنا".. "إيه
النحس ده؟!".. نقبنا دائماً علي شونة. وكل جديد يزيدنا حسرة علي القديم..
وكل آت يبكينا علي الماضي.. وكل راكب.. يجعلنا نندم ونحزن علي من نزل..
والذين يأتون متأخرين. ويعودون بقبض الريح يعزون أنفسهم بالحكمة العربية:
"رضينا من الغنيمة بالإياب".. "يعني كفايه إن احنا رجعنا بالسلامة".. لكن
الذي يأتي متأخراً لا يعود بالسلامة أبداً.. تعود معه الحسرة ويعود معه
الندم علي أنه أرهق نفسه "عالفاضي".. "يعني اللي ما راحش خالص أحسن منه"..
يعني الذي لم يثر خير من ثورتنا. والذي ثار وتظاهر بنبل ووطنية يقول الآن:
"كنت فين يا لأ لما قلت أنا آه؟!!..".. وعندما أري غياب الذين ثاروا ثم
طاروا. وحضور الذين ركبوا الثورة وسرقوها.. أتذكر مقولة حميدة "زينات صدقي"
في فيلم "ابن حميدو": لابيها الريس حنفي مشيرة إلي إسماعيل ياسين "ابن
حيدو" "لأ يابا ده ما ضربش.. ده سرق بس!!".. هناك من ضرب وتعرض للضرب
والقتل.. وهناك من سرق الثورة و"عملها سلطة".. وعلي فكرة.. هذه قرفة
قديمة.. كل الثورات والإنجازات والإبداعات المصرية حققها أناس.. وسرقها
آخرون.. والذين حققوها نسيهم تاريخنا المزيف والنصَّاب.. وخلد الذين
سرقوها..
****
- كل إنجازاتنا وثوراتنا وانتصاراتنا وإبداعاتنا فيها دوبلير غلبان
يخوض البحار ويتسلق الجبال ويتعرض للضرب حتي الموت.. ثم ينزوي ليأتي البطل
ويحتضن البطلة ويقبلها قبلة طويلة. ويتزوجها. وتنزل كلمة "النهاية" علي حفل
الزفاف.. زفاف البطل علي البطلة. أو علي الثورة.. ويحصل الدوبلير علي
ملاليم وعلي "صابونة" أيضاً.. بينما يفوز البطل المزيف سارق عرق الدوبلير
بالملايين وبالفتاة الجميلة وبإعجاب الجماهير وتأييدها. لأن الجماهير أيضاً
مغفلة وبلهاء وتحكم بالمظاهر.. الجماهير ترفع البطل المزيف علي الأعناق
وتعطيه صك النجومية ويتحول إلي فارس أحلام بناتنا المغفلات.. بينما يداس
الدوبلير الذي تعرض للأهوال والأخطار بالنعال.. كل الزعماء الذين فتح لهم
تاريخنا النصَّاب. أوسع أبوابه. كانوا مزيفين.. وكل الذين حققوا المعجزات
والإنجازات والانتصارات هم الأبطال الحقيقيون. الذين جعلهم تاريخنا
دوبليرات "غلابة".. سيف الدين قطز. هو البطل الحقيقي الذي قهر التتار في
عين جالوت.. لكن بيبرس سرق انتصاره بعد أن قتله.. ولم يحصل قطز علي سطر في
تاريخنا النصَّاب. بينما حصل بيبرس الخائن واللص علي كل الصفحات.. لا أحد
يعرف قبر قطز. بينما خلَّد الشعب الأبله بيبرس وجعله أسطورة. وصاغ له ملحمة
شعبية بعنوان الظاهر بيبرس.
ولا تعجب وأنت تتابع كل ملاحمنا الشعبية حين تكتشف أن كل أبطالها
بلطجية. وقُطَّاع طُرق. ونصابون. ومحتالون. ولصوص إنجازات وثورات
وانتصارات. "خذ عندك": الظاهر بيبرس وأحمد الدنف ودليلة المحتالة وعلي
الزيبق وأدهم الشرقاوي.. تاريخنا دائماً يرفع البلطجية إلي مراتب البطولة.
ويخسف بالأبطال الحقيقيين الأرض.. والبلطجية يتسيدون المشهد المصري الآن.
وبلطجة الجسد والسكاكين والسنج ليست شيئاً إذا قورنت بالبلطجة السياسية.
والبلطجة الإعلامية.. والبلطجة بالقانون.. بل والبلطجة الدينية أيضاً وهي
أخطرها جميعاً.. البلطجة الجسدية مُجَرَّمة قانوناً.. لكن البلطجة الفكرية
والدينية مباحة ولها مريدون وأنصار. وليست مستهجنة.. فالرجل الذي أفتي
بإهدار دم المعارضة بلطجي فتاوي.. بلطجي تدين.. بلطجي دعوة دينية... وهناك
عشرات مثله يمارسون البلطجة باسم الدين.. ويمارسون السطو المسلح بالجهل
والغفلة علي دور الأزهر وعلي الإفتاء وعلي العلوم الدينية.. والأدهي أنهم
يقودون قطيعاً من المنافقين الذين يأتمرون بأمر بلطجية الدعوة والإفتاء..
جيش البلطجية في مصر جرار وعرمرم. وسيطر علي مفاصل الدولة.. وهو منتشر في
كل مكان.. كتيبة بلطجية في الشارع. وكتيبة في أروقة السياسة.. وكتيبة في
الإعلام والصحافة وعلي الفضائيات.. وكتيبة علي مواقع التواصل الاجتماعي..
ولكل كتيبة عملها.. فواحدة تهدر دمنا. وثانية تهدر كرامتنا. وثالثة تهدر
أموالنا. ورابعة تهدر وتهدم وطننا.. لم يعد لأحد في وطن البلطجة كرامة ولا
قيمة ولا وزن.. زمان قبل ما يسمي الثورة كنا نتلقي الضربات الموجعة لكننا
كنا نعرف من أين تأتينا الضربة.. اليوم نتلقي ضربات وصفعات أكثر إيلاماً
ووجعاً. ولكن لا ندري من أين تأتينا.. "قرفتنا كده.. نصيبنا كده".. "مش
عايزة تتظبط معانا أبداً".. الوطن إما خارج نطاق الخدمة أو فاصل شحن.. ونحن
طوال الوقت في أشغال شاقة.. "نكسر ونحمل الزلط. ونطلب الرقم الغلط"..
وهكذا نحن في كل أحوالنا.. أهل الزلط والغلط!!!.. وسيبقي بنو وطني وأمتي في
المرحاض يألفون ولا يأنفون ولا يقرفون ولا يتأففون.

الأحد	الإثنين	الثلاثاء	الأربعاء	الخميس	الجمعة	السبت
			1	2	3	4
5	6	7	8	9	10	11
12	13	14	15	16	17	18
19	20	21	22	23	24	25
26	27	28	29	30	31

عفوا ............للتعبير

عفوا ............للتعبير

عفوا ............للتعبير :: تعاليق